استيقظ أبوصالح من نومه باكرا كعادته، تثائب وهو يتجه للحمام بخطوات ثقيلة، كادت الأرض أن تميد به أكثر من مرة، لكن الله ستر.
قبل أن نواصل حكايتنا، لنبعد بؤرة الكاميرا قليلا، ونتمعن في تضاريس أبوصالح، كما تلاحظون هو رجل في العقد السادس من عمره، مازالت بعض آثار وسامة ورثها من أيام الشباب تظهر على وجهه، وزنه كما تلاحظون يزيد على عمره بحساب الأرقام 3 مرات تقريبا، تقول زوجته أم صالح : تزداد ثروة زوجي كل يوم ملايين كثيرة، وفي ذات الوقت يزداد وزنه، جرامات محسوسة.
تتابع أم صالح ضاحكة: يقال والله أعلم أن نيوتن لو كان حيا بين ظهرانينا اليوم لوجد الدليل الحي على نظرية لكل فعل رد فعل مساو له في القوة ومضاد له في الاتجاه.
والآن لنتابع قصتنا، بعد أن تناول أبوصالح إفطاره توجه إلى مقر شركته، جاءته السكرتيرة الشقراء مبتسمة، حاملة البريد كي يوقعه، وقبل أن يفعل اندفع مدير أعماله مقتحما الحجرة، فيما انسحبت السكرتيرة مرتبكة.
نظر أبوصالح لمدير أعماله غاضبا وقال : كيف تقتحم المكتب بهذه الطريقة؟!!.
فأجابه مدير أعماله زيدون: كارثة... مصيبة... طامة كبرى.
- يا فتاح يا عليم، ماذا وراءك يا وجه الشؤوم؟!.
- الإضراب العام، بدأ الإضراب..
- ماذا تعني؟!!
تهالك زيدون على أول مقعد وجده في الحجرة وامتدت يده إلى كوب الماء الموضوع أمام أبوصالح وشربه دفعة واحدة دون استئذان ثم قال : المستأجرون، الأوغاد، أخلوا البيوت والشقق السكنية والفلل، وقالوا طالما أن الإيجارات زادت 3 أضعاف وكثر ، فإننا نفضل الحياة في الشارع، في خيام رخيصة لا تكلفنا الكثير.
اتسعت عينا أبوصالح وقال: ماذا؟!!!.
مسح زيدون العرق الذي تصبب على وجهه : المسألة بدأت منذ 3 أيام ولم نشأ إزعاجك، عرضنا عليهم أن نثبت الإيجار لسنتين قادمتين لكنهم رفضوا جميعا، الآن كل عقاراتنا خاوية على عروشها!!!.
أزاح أبوصالح غترته جانبا، ثم بدأ يحك صلعته لعدة دقائق كما هي عادته كلما الم به ظرف طارئ، ثم قال بصوت أقرب للبكاء : هذا يعني أننا سنخسر يوميا ما يقارب نصف مليون ريال، هل تدرك معنى ذلك؟!.
لم يتكلم زيدون، فصرخ أبوصالح في وجهه قائلا : معناه أنك ستفصل من عملك أنت ومئات الموظفين غيرك، فأنا لن أمنحكم راتبا مقابل لا شيء.
لكن في النهاية استعاد أبوصالح رباطة جأشه كعادة التجار المخضرمين الذين واجهوا أزمات كثيرة في حياتهم وخرجوا منها، إما بمهاراتهم الشخصية أو علاقاتهم، أو نفحات وهدايا يبعثرونها هنا وهناك، كي تصبح مليارديرا -يقول أبوصالح- يجب أن تصبح كالسحلية تتلون بألوان الطيف المرئي وغير المرئي.
وهكذا خرج مع ثلة من مساعديه ليقوم بجولة تفقدية لعقاراته الخاوية من سكانها، وهناك رأى الخيام المنصوبة كيفما اتفق، دون نظام أو ترتيب، ورأى الأطفال يلعبون في كل مكان، والزوجات يضحكن ويثرثرن وكأن حياتهن طبيعية.
قال زيدون لكفيله أبوصالح : لا عليك سيدي، أمهلهم شهرا وسيعودون كالكلاب المذعورة.
مط أبو صالح شفتيه : كلا، فليبقوا في الشارع، سنبحث عن مستأجرين غيرهم، هيا وزع الإعلانات على الصحف.
في اليوم التالي نشرت الإعلانات في الصحف والمجلات، وبثته كذلك القنوات الفضائية والإذاعات، لكن مرت الأيام والشهور دون جدوى، عندها قرر أن يخفض إيجاراته بنسبة 20%، لكن الحال ظل على ما هو عليه، "فلنخفضها 50% " قال أبوصالح، "بل 75%" قالها أبوصالح أيضا بعد سنة، ليس هذا فحسب، بل أعلن أنه سيعفي كل مستأجر من دفع إيجار 3 أشهر كاملة، لكن دون جدوى.
مرت عدة سنوات على هذه الحادثة، نسى القوم اسم أبي صالح، واختفى المسكين من الساحة تماما، بعد أن رفعت عليه البنوك عشرات القضايا، لعدم التزامه بدفع الأقساط.
في أحد الأزقة المتربة بعد صلاة العشاء جلس رجل ترهل جسمه على رصيف قذر،أخرج الرجل من كيس ورقي نصف سندوتش فلافل كان قد اشتراه صباح اليوم بكل ما يملك من مال كان قد تسوله من المحسنين.
لو تمعنت في وجه الرجل جيدا، لوجدت أنه رجل في العقد السادس من عمره، مازالت بعض آثار وسامة ورثها من أيام الشباب تظهر على وجهه، وزنه كما تلاحظون ينقص عن عمره بحساب الأرقام 3 مرات تقريبا، لو اقتربت منه أكثر لوجدت أنه أبوصالح بعد أن أصابه الهزال الذي ترافق مع الإفلاس، فعلا صدق نيوتن.
هنا كان لزاما أن يستيقظ أبوصالح من نومه، نظر حوله جيدا فرأى الأثاث الفاخر والرياش التي تحيط به، تأكد أنه في قصره فحمد الله، وأدرك أن ما رآه محض كابوس، أضغاث أحلام.
بالأمس فقط قام برفع الإيجارات لرابع مرة خلال السنوات الماضية، ابتسم قليلا وهو يتذكر كيف أن ثروته تضاعفت أضعافا مضاعفة في وقت كثير، لكنه تذكر الكابوس من جديد فخاف وارتعب، عندها قرر أن يبيع كل عقاراته ويشتري بدلا منها الذهب، فالذهب أكثر ثباتا في عالم اليوم من العقارات والأسهم، هكذا الذهب دوما، الآن وفي الماضي وربما المستقبل.
مسعود عبد الهادى