من الضروري أن ندير حوارا حول شكل مجتمعنا في المستقبل في مجالات الاقتصاد والسياسة والاجتماع, وأن نبحث في ما هي صورة المجتمع الذي نسعي الي اقامته, وأن يكون هدف هذا الحوار هو الوصول الي درجة من التوافق العام بشأن هذه الرؤية المستقبلية, مع اختلاف حول السياسات والبرامج وسبل تنفيذها.
وأهمية وجود هذه الرؤية هو أنها تصبح هادية ومرشدة لعملنا في مختلف المجالات, فعندما تتضح تلك الرؤية عن شكل مجتمع المستقبل, وتتضح الأفكار والمبادئ الأساسية التي ترتكز عليها, فإنه يصبح لدينا بوصلة ومرجعية تسمح لنا بالاختيار بين الأولويات وتقويم السياسات, ويبدو لي أن الإطار الفكري الحاكم لكثير من الأفكار والمفاهيم المتداولة في مجتمعنا هو الديمقراطية الاجتماعية وجوهرها التزاوج بين قيم الحريات الليبرالية وقيم العدل الاجتماعي, وجاء الإدراك بأهمية هذا التزاوج كثمرة تطور إنساني طويل وممتد وكخلاصة لعديد من التجارب والخبرات.
فعندما برزت الليبرالية, كان جوهرها هو اطلاق الحريات الفردية بما يسمح للانسان بأن يعبر عن نفسه ويحقق ذاته ويطور قدرته بعيدا عن استبداد الدولة وعن تسلط المجتمع, وفي هذا السياق, ارتبطت الحريات السياسية بالحريات الاقتصادية بحيث أصبحت الديمقراطية الليبرالية كنظام سياسي هي الوجه الآخر للرأسمالية كنظام اقتصادي, وبالتالي تحملت الديمقراطية الليبرالية, خصوصا في تطبيقاتها في الدول النامية, تجاوزات وممارسات رأسمالية متوحشة تسعي للربح السريع, وتحسب كل شيء بمنطق السوق, ولا ترتبط بأي منظومة أخلاقية أو اجتماعية خلافا لما عليه الوضع في الدول الرأسمالية الناضجة.
ففي غياب مبدأ المسئولية الاجتماعية لرأس المال وللضوابط التي تمارسها الدولة, فإن اطلاق الحريات يبرز كل صور عدم المساواة في المجتمع بحكم اختلاف القدرات والموارد المتاحة للبشر, كما يكون من شأنها تأكيد التفاوت الاجتماعي, ذلك أن كفالة الحريات لكل الأفراد لا يعني قدرتهم المتساوية علي ممارستها أو التمتع بها, فكل حرية لا يمكن ممارستها ما لم توجد القدرة اللازمة لذلك, والتي توفرها الظروف الاقتصادية والاجتماعية السائدة, وفي كل مجتمع, كم هناك من حريات وحقوق نص عليها الدستور والقانون, ولكنها ظلت أمرا نظريا دون تطبيق من الناحية الفعلية بسبب غياب الدستور والقانون, ولكنها ظلت أمرا نظريا دون تطبيق من الناحية الفعلية بسبب غياب القدرات اللازمة لذلك لدي اعداد كبيرة من الناس.
من الناحية الأخري, فإن التطبيقات الاشتراكية أقامت نظما اقتصادية تقوم علي ملكية الدولة لأدوات الانتاج, ونظما سياسية تعتمد علي الحزب الواحد, ومما لاشك فيه أن هذه الأنظمة قد انجزت الكثير في مجال التوزيع والعدل الاجتماعي, إلا أن سجلها في مجال الحريات العامة واحترام حقوق الإنسان كان مملوءا بالثقوب, أضف الي ذلك, أن قدرتها علي الاستمرار في الحفاظ علي معدلات عالية من النمو الاقتصادي تقلصت بشكل واضح, ولفترة ساد اعتقاد وكأن علينا أن نختار بين الحريات السياسية وبين العدل الاجتماعي, ولم يكن ذلك صحيحا ولم يوجد ما يحتم مثل هذا الاختيار.
لقد برز فكر الديمقراطية الاجتماعية لتجاوز هذا الموقف, وسعي للجمع بين الليبرالية السياسية والعدالة الاجتماعية, فكر يؤكد قيم تكافؤ الفرص بين الجميع دون تمييز, وإعادة توزيع عوائد النمو, ومسئولية الدولة في توفير الضمان الاجتماعي للفئات الفقيرة, فكر يؤكد مفهوم المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات.
لقد جاء فكر الديمقراطية الاجتماعية ليس استرجاعا لأنماط فكرية قديمة وجاهزة بل محاولة لتجاوز أفكار اليسار القديم واليمين القديم علي حد سواء, وهو فكر يسعي لتقديم بديل نظري وعملي للتحديات الكونية المعاصرة, وهو يرتكز علي مفاهيم الاقتصاد الحر والمبادرة الفردية, ولكنه يركز تحديدا علي دور الدولة ومسئوليتها عن دعم الفقراء والرعاية الاجتماعية, فالدولة وفقا لهذا الفكر ليست هي الدولة الحارسة ولا هي الدولة المتدخلة المتسلطة, ولكنها الدولة التي تحقق التوازن العام في المجتمع بين الحقوق والواجبات, وبين الحقوق الشخصية والمسئولية الاجتماعية, وهي المسئولة عن ضمان توفير السلع والخدمات الأساسية للمواطنين بغض النظر عما إذا كان ذلك يتحقق بواسطة أجهزتها أو من خلال مؤسسات أخري, ويؤكد فكر الديمقراطية الاجتماعية, أنه إذا كان توغل الدولة في السيطرة علي الاقتصاد لم يحقق ثماره التنموية, فإن التوغل في انسحاب الدولة من الحياة الاقتصادية والاجتماعية يمثل خطأ لا يقل جسامة.
هذه الأفكار والمعاني ارتبطت بمفهوم الطريق الثالث, الذي تحدث عنه كثيرا توني بلير, وأحيا فيه قيم الديمقراطية الاجتماعية في الخطاب السياسي المصري وجوهرها التلازم بين الحرية السياسية والعدل الاجتماعي, وبين النمو الاقتصادي وحسن توزيع عائده.